الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)
.تفسير الآيات (5- 10): {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10)}ولما كانت هذه الخلال أمهات الأفعال، الموجبة للكمال، وكانت مساوية من وجه لآية البقرة ختمها بختامها، بعد أن زمها بزمامها، فقال: {أولئك} أي العالوا الرتبة الحائزون منازل القربة أعظم رتبة {على هدى} أي عظيم هم متمكنون منه تمكن المستعلي على الشيء، وقال: {من ربهم} تذكيرا لهم بأنه لولا إحسانه ما وصلوا إلى شيء. ليلزموا تمريغ الجباه على الأعتاب، خوفاً من الإعجاب {وأولئك هم} أي خاصة {المفلحون} أي الظافرون بكل مراد.ولما كان فطم النفس عن الشهوات. أعظم هدى قائد إلى حصول المرادات، وكان اتباعها الشهوات أعظم قاطع عن الكمالات، وكان في ختام الروم أن من وقف مع الموهومات عن طلب المعلومات مطبوع على قلبه، وكان ما دعا إليه الكتاب هو الحكمة التي نتيجتها الفوز، وما دعا إليه اللهو هو السفه المضاد للحكمة، بوضع الأشياء في غير مواضعها، المثمر للعطب، قال تعالى معجباً ممن يترك الجد إلى اللهو، ويعدل عن جوهر العلم إلى صدق السهو، عاطفاً على ما تقديره: فمن الناس من يتحلى بهذا الحال فيرقى إلى حلبة أهل الكمال: {ومن} ويمكن أن يكون حالاً من فاعل الإشارة. أي أشير إلى آيات الكتاب الحكيم حال كونه هدى لمن ذكر والحال أن من {الناس} الذين هم في أدنى رتبة الإحساس، لم يصلوا إلى رتبة أهل الإيمان، فضلاً عن مقام أولي الإحسان.ولما كان التقدير: من يسير بغير هذا السير، فيقطع نفسه عن كل خير، عبر عنه بقوله: {من يشتري} أي غير مهتد بالكتاب ولا مرحوم به {لهو الحديث} أي ما يلهي من الأشياء المتجددة التي تستلذ فيقطع بها الزمان من الغناء والمضحكات وكل شيء لا اعتبار فيه، فيوصل النفس بما أوصلها إليه من اللذة إلى مجرد الطبع البهيمي فيدعوها إلى العبث من اللعب كالرقص ونحوه مجتهداً في ذلك معملاً الخيل في تحصيله باشتراء سببه، معرضاً عن اقتناص العلوم وتهذيب النفس بها عن الهموم والغموم، فينزل إلى أسفل سافلين كما علا الذي قبله بالحكمة إلى أعلى عليين- قال ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت في رجل اشترى جارية تغنيه ليلاً ونهاراً، وقال مجاهد: في شرى القيان والمغنين والمغنيات، وقال ابن مسعود: اللهو الغناء، وكذا قال ابن عباس وغيره.ولما كان من المعلوم أن عاقبة هذه الملاهي الضلال، بانهماك النفس في ذلك، لما طبعت عليه من الشهوة لمطلق البطالة، فكيف مع ما يثير ذلك ويدعو إليه من اللذاذة، فتصير أسيرة الغفلة عن الذكر، وقبيلة الإعراض عن الفكر، وكان المخاطب بهذا الكتاب قوماً يدعون العقول الفائقة، والأذهان الصافية الرائقة قال تعالى: {ليضل} من الضلال والإضلال على القراءتين، ضد ما كان عليه المحسنون من الهدى {عن سبيل الله} أي الطريق الواضح الواسع الموصل إلى رضى الملك الأعلى المستجمع لصفات الكمال والجلال والجمال التي هم مقرّون بكثير منها، منبهاً لهم على أن هذا مضل عن السبيل ولا بد، وأن ذلك بحيث لا يخفى عليهم، فإن كان مقصوداً لهم فهو ما لا يقصده من له عداد البشر، وإلا كانوا من الغفلة سوء النظر وعمى البصيرة بمنزلة هي دون ذلك بمراحل.ولما كان المراد: من قصد الضلال عن الشيء، ترك ذلك الشيء، وكان العاقل لا يقدم على ترك شيء إلا وهو عالم بأنه لا خير فيه قال: {بغير علم} ونكره ليفيد السلب العام لكل نوع من أنواع العلم، أي لأنهم لا علم لهم بشيء من حال السبيل ولا حال غيرها، علماً يستحق إطلاق العلم عليه بكونه يفيد ربحاً أو يبقى على رأس مال من دين أو دنيا، فإن هذا حال من استبدل الباطل بالحق والضلال بالهدى.ولما كان المستهزئ بالشيء المحتقر له لا يتمكن من ذلك إلا بعد الخبرة التامة بحال ذلك الشيء وأنه لا يصلح لصالحه ولا يروج له حال بحال قال معجباً تعجيباً آخر أشد من الأول بالنصب عطفاً على {يضل} في قراءة حمزة والكسائي وحفص عن عاصم، وبالرفع للباقين عطفاً على {يشتري}: {ويتخذها} أي يكلف نفسه ضد ما تدعوه إليه فطرته الأولى أن يأخذ السبيل التي لا أشرف منها مع ما ثبت له من الجهل الطلق {هزواً}.ولما أنتج له هذا الفعل الشقاء الدائم. بينه بقوله، جامعاً حملاً على معنى من بعد أن أفرد حملاً على لفظها، لأن الجمع في مقام الجزاء أهول، والتعجيب من الواحد أبلغ {أولئك} أي الأغبياء البعيدون عن رتبة الإنسان، وتهكم بهم التعبير باللام الموضوعة لما يلائم فقال: {لهم عذاب مهين} أي يثبت لهم الخزي الدائم ضد ما كان للمحسنين من الرحمة.ولما كان الإنسان قد يكون غافلاً، فإذا نبه انتبه، دل سبحانه على أن هذا الإنسان المنهمك في أسباب الخسران لا يزداد على مر الزمان إلا مفاجأة لكل ما يرد عليه من البيان بالبغي والطغيان، فقال مفرداً للضمير حملاً على اللفظ أيضاً لئلا يتعلق متمحل بأن المذموم إنما هو الجمع صارفاً الكلام إلى مظهر العظمة لما اقتضاه الحال من الترهيب: {وإذا تتلى عليه آياتنا} أي يتجدد عليه تلاوة ذلك مع ما له من العظمة من أيّ تال كان وإن عظم {ولى} أي بعد السماع، مطلق التولي سواء كان على حالة المجانبة أو مدبراً {مستكبراً} أي حال كونه طالباً موجداً له بالإعراض عن الطاعة تصديقاً لقولنا آخر تلك {ولئن جئتهم بآية ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون} [الروم: 58].ولما كان السامع لآياته سبحانه جديراً بأن تكسبه رقة وتواضعاً، قال تعالى دالاً على أن هذا الشقي كان حاله عند سماعه وبعده كما كان قبل: {كأن} أي كأنه، أي مشبهاً حالة بعد السماع حاله حين {لم يسمعها} فدل ذلك على أنه لم يزل على حالة الكبر لآنه شبه حاله مع السماع بحاله مع عدم السماع، وقد بين أن حاله مع السماع الاستكبار فكان حاله قبل السماع كذلك.ولما كان من لم يسمع الشيء قد يكون قابلاً للسمع، فإذا كلم من قد جرت العادة بأن يسمع منه سمع، بين أن حال هذا كما كان مساوياً لما قبل التلاوة فهو مساو لما بعدها، لأن سمعه مشابه لمن به صم، فالمضارع في {يتلى} مفهم لأن الحال في الاستقبال كهي في الحال فقال تعالى: {كأن في أذنيه وقراً} أي صمماً يستوي معه تكليم غيره له وسكوته.ولما تسبب عن ذلك استحقاقه لما يزيل نخوته وكبره وعظمته، وكان استمرار الألم أعظم كاسرٍ لذوي الشمم، وكان من طبع الإنسان الاهتزاز لوعد الإحسان كائناً من كان نوع اهتزاز قال: {فبشره} فلما كان جديراً بأن يقبل- لا يولّي لظنه البشري- على حقيقتها لأن من يعلم أنه أهل للعذاب بأفعاله الصعاب لا يزال يتوالى عليه النعم مرة بعد مرة حتى يظن أو يكاد يقطع بأن المعاصي سبب لذلك وأنه- لما كان عند الله من عظيم المنزلة- لا يكره منه عمل من الأعمال، قرعة بقوله: {بعذاب} أي عقاب مستمر {أليم}.ولما كانت معرفة ما لأحد الجزءين باعثة على السؤال عما للحزب الآخر، وكانت إجابة السؤال عن ذلك من أتم الحكمة، استأنف تعالى قوله مؤكداً لأجل إنكار الكفرة: {إن الذين آمنوا} أو اوجدوا الإيمان {وعملوا} أي تصديقاً له {الصالحات} وضعاً للشيء في محله عملاً بالحكمة {لهم جنات} أي بساتين {النعيم} فأفاد سبحانه بإضافتها إليه أنه لا كدر فيها أصلاً ولا شيء غير النعيم. ولما كان ذلك قد لا يكون دائماً. وكان لا سرور بشيء منقطع قال: {خالدين فيها} أي دائماً.ولما كانت الثقة بالوعد على قدر الثقة بالواعد، وكان إنجاز الوعد من الحكمة، قال مؤكداً لمضمون الوعد بالجنات: {وعد الله} الذي لا شيء أجل منه؛ فلا وعد أصدق من وعده، ثم أكده بقوله: {حقاً} أي ثابتاً ثباتاً لا شيء مثله، لأنه وعد من لا شيء مثله ولا كفوء له.ولما كان النفس الغريب جديراً بالتأكيد، أتى بصفتين مما أفهمه الإتيان بالجلالة تصريحاً بهما تأكيداً لأن هذا لابد منه فقال: {وهو} أي وعد بذلك والحال أنه {العزيز} فلا يغلبه شيء {الحكيم} أي المحكم لما يقوله ويفعله، فلا يستطاع نقضه ولا نقصه.ولما ختم بصفتي العزة- وهي غاية القدرة- والحكمة- وهي ثمرة العلم- دل عليها باتقان أفعاله وإحكامها فقال: {خلق السماوات} أي على علوها وكبرها وضخامتها {بغير عمد} وقوله: {ترونها} دال على الحكمة، إن قلنا إنه صفة لعمد أو استئناف، إما أن قلنا بالثاني فلكون مثل هذا الخلق الكبير الواسع يحمل بمحض القدرة، وإن قلنا بالأول فتركيب مثله على عمد تكون في العادة حاملة له وهي مع ذلك بحيث لا ترى أدخل في الحكمة وأدق في اللطافة والعظمة، لأنه يحتاج إلى عملين: تخفيف الكثيف وتقوية اللطيف.ولما ذكر العمد المقلة، اتبعه الأوتاد المقرة فقال: {وألقى في الأرض} أي التي أنتم عليها، جبالاً {رواسي} والعجب من فوقها وجميع الرواسي التي تعرفونها تكون من تحت، تثبتها عن {أن تميد} أي تتمايل مضطربة {بكم} كما هو شأن ما على ظهر الماء.ولا ذكر إيجادها وإصلاحها للاستقرار. ذكر ما خلقت له من الحيوان فقال: {وبث فيها} أي فرق {من كل دابة} ولما ذكر ذلك ذكر ما يعيش به، فقال منبهاً لمظهر العظمة على أن ذلك وإن كان لهم في بعضه تسبب لا يقدر عليه إلا هو سبحانه: {وأنزلنا} أي بما لنا من العزة اللازمة للقدرة، وقدم ما لا قدرة لمخلوق عليه بوجه فقال: {من السماء ماء} ولما تسبب عن ذلك تدبير الأقوات، وكان من آثار الحكمة التابعة للعمل، دل عليه بقوله: {فأنبتنا} أي بما لنا من العلو في الحكمة {فيها} أي الأرض بخلط الماء بترابها {من كل زوج} أي صنف من النبات متشابه {كريم} بما له من البهجة والنضرة الجالبة للسرور والمنفعة والكثرة الحافظة لتلك الدواب..تفسير الآيات (11- 12): {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11) وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12)}ولما ثبت بهذا الخلق العظيم على هذا الوجه المحكم عزته وحكمته، ثبتت ألوهيته فألزمهم وجوب توحيده في العبادة كما توحد بالخلق، لأن ذلك عين الحكمة، كما كان خلقه لهذا الخلق على هذا النظام ليدل عليه سبحانه سر الحكمة، فقال ملقناً للمحسنين من حزبه ما ينبهون به المخالفين موبخاً لهم مقبحاً لحالهم في عدو لهم عنه مع علمهم بما له من التفرد بهذه الصنائع: {هذا} أي الذي تشاهدونه كله {خلق الله} أي الذي له جميع العظمة فلا كفوء له.ولما كان العاقل بل وغيره لا ينقاد لشيء إلا أن رأى له فعلاً يوجب الانقياد له، نبه على ذلك بقوله جواباً لما تقديره: فإن ادعيتم لما دونه مما عبدتموه من دونه خلقاً عبدتموه لأجله: {فأروني ماذا خلق الذين} زاد اسم الإشارة زيادة في التقريع بتأكيد النفي المقصود من الكلام، ونبه على سفول رتبتهم بقوله مضمراً لأنه ليس فيما أسند إلى الاسم الأعظم حيثية يخشى من التقييد بها نقص: {من دونه} فسأله في رؤية ما خلقوا غبنه أحد أصلاً بأن انقدتم لما لا ينقاد له حيوان فضلاً عن إنسان بكونه لا فعل له أصلاً، فكان من حقكم- إن كانت لكم عقول- أن تبحثوا اولاً هل لهم أفعال أم لا؟ ثم إذا ثبت فهل هي محكمة أم لا، ثم إذا ثبت فهل شاركهم غيرهم أم لا، وإذا ثبت أن غيرهم شاركهم فأيهما أحكم وأما أنكم تنقادون لهم ولا فعل لهم أصلاً ثم تقدرون أن لهم أفعالاً ترجونهم بها وتخشونهم، فهذا ما لا يتصوره حيوان أصلاً، ولذلك قال تعالى: {بل} منبهاً على أن الجواب: ليس لهم خلق، بل عبدتهم أو أنتم في جعلهم شركاء، هكذا كان الأصل، ولكنه قال: {الظالمون} أي العريقون في الظلم، تعميماً وتنبيهاً على الوصف الذي أوجب لهم كونهم {في ضلال} عظيم جداً محيط بهم {مبين} أي في غاية الوضوح، وهو كونهم يضعون الأشياء عنهم بجبال الهوى فلا حكمة لهم.ولما ثبتت حكمته سبحانه وأنه أبعدهم عنها بما قضى عليهم من الجهل وغباوة العقل وآتاها من تاب، واعتصم بآيات الكتاب، توقع السامع الإخبار عن بعض من آتاه الحكمة من المتقدمين الذين كانوا من المحسنين، فوضعوا الأشياء في مواضعها بأن آمنوا على قوله: {وهو العزيز الحكيم} أو على مقدر تقديره: لأنا أضللناهم بحكمتنا وآتينا الحكمة الذين قبلوا آياتنا وأحسنوا التعبد لنا فما عبدوا صمناً ولا مالوا إلى لهو، لأن ذلك عين الحكمة لكونه وضعاً للشيء في محله، فهو تقدير لتخصيص النبي صلى الله عليه وسلم.بالرسالة: {ولقد آتينا} بما لنا من العظمة والحكمة {لقمان} وهو عبد من عبيدنا {الحكمة} وهو العلم المؤيد بالعمل والعمل المحكم بالعلم، وقال الحرالي: هي العلم بالأمر الذي لأجله وجب الحكم، والحكم الحمل على جميع أنواع الصبر والمصابرة ظاهراً بالإيالة العالية، ولا يتم الحكم وتستوي الحكمة إلا بحسب سعة العلم، وقال ابن ميلق: إن مدارها على إصابة الحق والصواب في القول والعمل، ولهذا قال ابن قتيبة: لا يقال لشخص حكيماً حتى تجتمع له الحكمة في القول والفعل، قال: ولا يسمى المتكلم بالحكمة حكيماً حتى يكون عاملاً بها- انتهى.ومن بليغ حكمته ما أسنده صاحب الفردوس عن ابن عمر رضي الله عنهما ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: «حقاً أقول! لم يكن لقمان نبياً، ولكن كان عبداً ضمضامة كثير التفكر حسن اليقين، أحب الله فأحبه، فمنّ عليه بالحكمة، كان نائماً نصف النهار إذ جاءه نداء، قيل: يا لقمان، هل لك أن يجعلك الله خليفة في الأرض تحكم بين الناس بالحق، فأجاب: إن خيرني ربي قبلت العافية ولم أقبل البلاء، وإن عزم عليّ فسمعاً وطاعة، فإني أعلم أنه أن فعل ذلك ربي عصمني وأعانني، فقالت الملائكة بصوت لا يراهم: لم يا لقمان؟ قال: لأن الحاكم بأشد المنازل وأكدرها، يغشاه الظلم من كل مكان، إذ يعدل فبالحري أن ينجو، وإن أخطأ أخطأ طريق الجنة، ومن يكن في الدنيا ذليلاً خير من أن يكون شريفاً، ومن تخير الدنيا على الآخرة تفتنه الدنيا ولا يصيب الآخرة، فعجبت الملائكة من حسن منطقه، فنام نومة فأعطي الحكمة فانتبه يتكلم بها» وفي الفردوس عن مكارم الأخلاق لأبي بكر بن لال عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الحكمة عشرة أجزاء تسعة منها في العزلة وواحد في الصمت»، وقال لقمان: لا مال كصحة ولا نعيم كطيب نفس، وقال: ضرب الوالد لولده كالسماء للزرع، وقيل له: أيّ الناس شر؟ قال: الذي لا يبالي أن يراه الناس مسيئاً، وقيل له: ما أقبح وجهك! فقال: تعيب النقش أو النقاش، وقال البغوي: إنه قيل له: لم بلغت ما بلغت؟ قال: بصدق الحديث وأداء الأمانة وترك ما لا يعنيني- انتهى. فهو سبحانه من حكمته وحكمه أن يرفع ما يشاء بما يعلمه منه سلامة الطبع وإن كان عبداً فلا يدع أن يختص محمداً صلى الله عليه وسلم ذا النسب العالي والمنصب المنيف في كل خلق شريف بالرسالة من بين قريش وإن لم يكن من أهل الدنيا المتعظمين بها، قال ابن ميلق: من حكمته سبحانه أن يجمع بين أثرى عدله وفضله، وأن يعاقب بينهما في الظهور فيذل ويعز ويفقر ويغني ويسقم ويشفي ويفني ويبقي إلى غير ذلك، فما من سابق عدل إلا له لاحق فضل، ولا سابق فضل إلا له لاحق عدل، غير أن أثر العدل والفضل قد يتعلق بالبواطن خاصة، وقد يتعلق أحدهما بالظاهر والآخر بالباطن، وقد يكون اختلاف تعلقمها في حالة واحدة، وقد يكون على البدل، وعلى قدر تعلق الأثر السابق يكون تعلق الأثر اللاحق.ولما كانت الحكمة قاضية بذلك، أجرى الله سبحانه آثار عدله على ظواهر أصفيائه دون بواطنهم، ثم عقبت ذلك بإيراد آثار فضله على بواطنهم وظواهرهم حتى صار من قاعدة الحكمة الإلهية تفويض ممالك الأرض للمستضعفين فيها كالنجاشي حيث بيع في صغره، وذلك كثير موجود بالاستقراء، فمن كمال تربية الحكيم لمن يريد إعلاء شأنه أن يجري على ظاهره من أثر العدل ما فيه تكميل لهم وتنوير لمداركهم وتطهير لوجودهم وتهذيب وتأديب- إلى غير ذلك من فؤائد التربية، ومن تتبع أحوال الأكابر من آدم عليه السلام وهلم جراً رأى من حسن بلاء الله سبحانه وتعالى لهم ما يشهد لما قررته بالصحة إن شاء الله تعالى انتهى.ولما كانت الحكمة هي الإقبال على الله قال: {أن اشكر} وهو وإن كان تقديره: قلنا له كذا، يؤول إلى آتيناه الشكر وصرف الكلام إلى الاسم الأعظم الذي لم يتسم به غيره سبحانه دفعاً للتعنت، ونقلاً عن مظهر العظمة إلى أعظم منها فقال: {لله} بأن وفقناه له بما سببناه له من الأمر به لأن الحكمة في الحقيقة هي القيام بالشكر لا الإيصاء به، ويمكن أن تكون {أن} مصدرية، ويكون التقدير: آتيناه إياها بسبب الشكر، وعبر بفعل الأمر إعلاماً بأن شكره كان لامتثال الأمر ليكون أعلى.ولما كان التقدير: فبادر وشكر، فما نفع إلا نفسه، كما أنه لو كفر ما ضر إلا نفسه، عطف عليه معرفاً أنه غني عن شكر الشاكرين قوله معبراً بالمضارع الدال على أن من أقبل عليه- في أيّ زمان كان- يلقاه ويكون معروفه له دائماً بدوام العمل: {ومن يشكر} أي يجدد الشكر ويتعاهد به نفسه كائناً من كان {فإنما يشكر} أي يفعل ذلك {لنفسه} أي فإنما ينفع نفسه، فإن الله يزيده من فضله فإن الله شكور مجيد {ومن كفر} فإنما يضر نفسه، وعبر بالماضي إشارة إلى أن من وقع منه كفر ولو مرة جوزي بالإعراض عنه {فإن الله} عبر بالاسم الأعظم لأنه في سياق الحكمة، والحكيم من أدام استحضار صفات الجلال والجمال فغلب خوفه رجاءه ما دام في دار الأكدار {غني} عن الشكر وغيره {حميد} أي له جميع المحامد وإن كفره جميع الخلائق، فإن تقدير الكفر عليهم بحيث لا يقدرون على الانفكاك عنه من جملة محامدة بالقدرة والعزة والفهم والعظمة. ويجوز- وهو أقرب- أن يعود {غني} إلى الكافر و{حميد} إلى الشاكر، فيكون اسم فاعل، فيكون التقدير: ومن كفر فإنما يكفر على نفسه، ثم سبب عن الجملتين وهما كون عمل كل من الشاكر والكافر لا يتعداه قوله: {فإن الله غني} أي عن شكر الكافر {حميد} للشاكر، والآية على الأول من الاحتباك: تخصيص الشكر بالنفس أولاً يدل على حذف مثله من الكفر ثانيا، وإثبات الصفتين يدل على حذف مثلهما أولاً.
|